شاعر قلما يجود الزمان
بمثله أبو العتاهية... أبو الزهد
.......
كتبت فاطمة سعيد
من هو أبو العتاهية
ولد الشاعر في عين التمر
وهي قرية قرب الأنبار غربي الكوفة سنة 130، وانتقل مع أبيه صغيرًا إلى الكوفة، وكانت
الكوفة مدينة العلماء والمحدثين والعبَّاد والزُّهاد، وقد عاصر فيها الشاعر أمثال علقمة
بن قيس وعمرو بن عتبة بن فرقد، والربيع بن خيثم، وأويس القرني، والنخعي والشعبي، وسفيان
الثوري وشريك القاضي، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة والكسائي والفراء.
وهو من الموالي وهو إسماعيل
بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق ، وولاؤه في قبيلة عنزة، وجده كيسان من سبي عين
التمر، وكان أول سبي دخل المدينة المنورة.
وقد لقب بأبي العتاهية
- وليس هذا من كنيته، لأن كنيته أبو إسحاق.
والناظر إلى المعاجم اللغوية
يجد أن عتاهية كلمة تدل على معان كثيرة ففي لسان العرب يقول بن منظور: "عته في
العلم: أُولع به، وحرَص عليه، والعتاهة والعتاهية مصدر عته؛ مثل الرفاهة والرفاهية،
والعتاهية ضلال الناس من التجنن والدهش، والتعتُّه المبالغة في الملبس والمأكل، ورجل
عتاهية أحمق، وتعته تنظف، وأبو العتاهية الشاعر المعروف، ذكر أنه كان له ولد يقال له
عتاهية، وقيل: لو كان الأمر كذالك، لقيل أبو عتاهية بغير تعريف".
ويعود السبب في تلقيبه به كما ذكر في كتاب الأغاني أن المهدي قال له يومًاما: "أنت إنسان متحذلق متعتِّه، فاستوى له من ذلك لقب غلب عليه"(1).
كما ذكرنا عاش أبو العتاهية مع أبيه في الكوفة وكانت الكوفة قد ظهر فيها انتشار
الرخاء، ونشأت فيها طوائف من الشعراء المُجَّان متنقلين على أماكن اللهو ،يفسقون ويتزندقون،
ويصفون أنفسهم بالظرف، وأنهم حلية الأرض ونقش الزمان؛ أمثال حماد عجرد، ووالبة بن الحباب،
ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد وشراعة بن زندبود(2) كما وصفهم الثعالبي.
بدايته مع الغزل
نشأ الشاعر في هذه البيئة،
وخالط هؤلاء الشعراء الْمُجَّان، ويختلف إلى حلقات العلماء ومجالس العباد، وقد كان
فقيرًا، فكان يعمل مع أبيه في بيع الفخَّار بالكوفة، وقال الشعر وبرع فيه وهو حدثٌ،
وظهر نبوغه في وقت مبكر.
ساكني الأجداث أنتم
مثلنا بالأمس كنتم
ليت شعري ما صنعتُم
أربحتم أم خسرتم
ومع أن أبا العتاهية بدأ حياته مع المجَّان، فإن أوائل شعره كانت في الزهد ووصف الموت وأحواله، ونزل (الحيرة) وهي قريبة من الكوفة، فهوى امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن وجمال، وتُدعى سعدى، وكان ينظم لها الشعر الذي تنوح به على الموتى، وكانت سعدى مولاة لبني معن بن زائدة، وقد أدت صلته بها إلى خلاف ومهاجاة بينه وبين عبدالله بن معن بن زائدة (3).
في خلافة المهدي انتقل
أبو العتاهية إلى بغداد وكان في الثلاثين من عمره، وكانت بغداد أخذت في الازدهار، فانتقل
النشاط العلمي والأدبي من الكوفة والبصرة إليها بعد أن أصبحت دار الخلافة.
حاول أبو العتاهية عندما وصل بغداد الوصول إلى قصر الخلافة، فمدح المهدي يقول ابنه محمد: "فلما تطاولت أيامه، أحبَّ أن يُشهر نفسه بأمر يصل به إليه، فلما بصر بعتبة راكبة في جمع من الخدم تتصرف في حوائج الخلافة تعرَّض لها، وأمل أن يكون تولُّعه بها هو السبب الموصل إلى حاجته، وانهمك في التشبيب والتعرض في كل مكان لها، والتغرد بذكرها وإظهار شدة عشقها(4).
وقد روى المبرد أنه
"أهدى إلى المهدي برنية صينية فيها ثوب ممسك فيه سطران مكتوبًا عليه بالغالية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
لله والقائم المهدي يكفيها
إني لأيئَس منها ثم يُطمعني
فيها احتقارك للدنيا وما
فيها
قال: فهم أن يدفع إليه عتبة، فقالت له: "يا أمير المؤمنين، مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار متكسب بالشعر؟"، فبعث إليه: "أما عتبة، فلا سبيل لك إليها، وقد أمرنا لك بملء برنية مالًا"(5)
وكان يتغزل بها في مقدمة
مدحه للمهدي، فقد روى الحافظ ابن عبد البر في مقدمته لديوان شعر أبو العتاهية أن الشعراء
حضروا يومًا عند المهدي، فقدم أبو العتاهية في الإنشاد، فقال بشار بن برد لأشجع السلمي:
"يا أخا سليم، من هذا الذي قدم للإنشاد علينا؟ أهو ذلك الكوفي الملقب؟"،
قال: "نعم"، فقال بشار: "لا جزى الله خيرًا من جمعنا به أيستنشد قبلنا؟"،
فقال له أشجع: "هو ما ترى"، فأنشد أبو العتاهية:
ألا ما لسيدتي ما لها
تدل فأحمل إدلالها
وإلا ففيما تجنَّت وما
جنيت سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطا
تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
وأتعب باللوم عذابها
فقال بشار: "أبهذا الشعر يقدم علينا؟"، فلما أتى على قوله:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره
لزُلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تُعطه نيَّات القلوب
لَما قبل الله أعمالها
وإن الخليفة من قول لا
إليه ليبغض من قالها
فاهتز بشار طربًا، وقال:
"يا أخا سليم، أترى الخليفة لم يَطِرْ طربًا عن فراشه لِما يأتي به هذا الكوفي؟".
وقضى أبو العتاهية مدة
طويلة يتغزل بعتبة حتى شاع فيها شعره، فأمر المهدي بجلده وإدخاله السجن، ولم يعف عنه
إلا بشفاعة خاله يزيد بن منصور الحميري(6)
تحوله إلى الزهد
رؤيا تزلزل المرء
رُوي عن أبي سلمة الغنوي
أنه سأل أبا العتاهية: "ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟"، فأجابه:
"إذًا والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي
أهدت لي الصد والملالات
منحتها مهجتي وخالصتي
فكان هجرانها مكافاتي
هيَّمني حبُّها وصيَّرني
أُحدوثةً في جميع جاراتي
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيًا أتاني، فقال: "ما أصبتَ أحدًا تدخله بينك وبين عتبة يحكم علينا بالمعصية إلا الله تعالى؟"، فانتبهتُ مذعورًا، وتبتُ إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل" (7)
ومن أشعاره في الزهد(8)
نَصَبتِ لَنا دونَ التَفَكُّرِ
يا دُنيا أَمانِيَّ يَفنى العُمرُ مِن قَبلِ أَن تَفنى
لِكُلِّ امرِئٍ فيما قَضى
اللَهُ خُطَّةٌ مِنَ الأَمرِ فيها يَستَوي العَبدُ وَالمَولى
وَإِنَّ امرَأً يَسعى لِغَيرِ
نِهايَةٍ لَمُنغَمِسٌ في لُجَّةِ الفاقَةِ الكُبرى
بكيْتُ على الشّبابِ بدمعِ
عيــني فلـم يُغـنِ البُكــاءُ ولا النّحـيبُ
فَيا أسَفاً أسِــفْتُ
علــى شَبــابٍ نَعاهُ الشّيبُ والرّأسُ الخَضِيبُ
عريتُ منَ الشّبابِ وكنتُ
غضاً كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيب
فيَا لَــيتَ الشّبــابَ
يَعُودُ يَوْماً فـأُخــبرَهُ بمـا فَعَـلَ المَـشيــبُ
وقوله:
لا يأمن الدهر إلا الخائن
البطر من ليس يعقل ما يأتي وما يذر
ما يجهل الرشد من خاف الإله
ومن أمسى وهمته في دينه الفكر
فيما مضى فكرة فيها لصاحبها إن كان ذا بصر بالرأي معتبر
أين القرون وأين المبتنون
بها هذي المدائن فيها
الماء والشجر
وأين كسرى انوشروان مال
به صرف الزمان وأفنى ملكه الغير
بل أين أهل التقى بعد النبي
ومن جاءت بفضلهم الآيات والسور
أعدد أبا بكر الصديق أولهم وناد من بعده في الفضل ياعمر
وعد من بعد عثمان أبا حسن فإن فضلهما يروى ويدكر
لم يبق أهل التقى فيها
لبرهم ولا الجبابرة الأملاك ما عمروا
فاعمل لنفسك واحذر أن تورطها في هوة ما لها ورد ولا صدر
ما يحذر الله إلا الراشدون
وقد ينجي الرشيد من
المحذورة الحذر
الناس في هذه الدنيا على
سفر وعن قريب بهم ما
ينقضي السفر
فمنهم قانع راض بعيشته ومنهم موسر والقلب مفتقر
ما يشبع النفس إن لم تمس
قانعة شيئ ولو كثرت في ملكها البدر
والنفس تشبع أحيانآ فيرجعها نحو المجاعة حب العيش والبطر
والمرء ما عاش في الدنيا
له أثر فما يموت وفي الدنيا له أثر
وقوله:
نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية طفلُ الملوك هنا، كطفل الحاشية
ونغادر الدنيا ونحن كما
ترى متشابهون على قبور
حافية
أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا وحسابُنا بالحق يوم الغاشية
حور وأنهار، قصور عالية وجهنمٌ تُصلى، ونار حامية
فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي ما دام يومُك والليالي باقية
وغداً مصيرك لا تراجع بعده إما جنان الخلد وإما الهاوية
المصادر
1ـ الأغاني 4/4
2ـ ثمار القلوب للثعالبي 407.
3ـ الأغاني 14 /53.
4ـ تاريخ بغداد 6 /256.
5ـ مروج الذهب 3 /240.
6ـ الأغاني 4 /42.
7ـ تاريخ بغداد 6 /258.
8ـ web.archive.org
تعليقات
إرسال تعليق